تسويق سمير جعجع: ضعف المعارضة لا قوّته
سواء أعجبتنا هذه الحقيقة أم لم تعجبنا: تمكّن سمير جعجع من خلال تطورات الأيام الماضية من تسويق نفسه بوصفه أبرز متاريس التحدّي في وجه ما يسمّى «المنظومة الحاكمة». ومن سخرية القدر أنّ أدوات المترسة في وجه المنظومة لم تكن سوى التعنّت في وجه «استنسابيّة» القضاء، من خلال التمنّع عن حضور جلسات الاستماع، ودفع عائلات المتّهمين إلى تقديم طلبات «كف يد» القاضي الذي يحقّق في أحداث الطيونة:
من يريد جعجع، فليذهب إليه إلى معراب، كما سرّبت مصادر القوات اللبنانيّة نفسها.
تفنّن جعجع في إخراج المشهد الذي يريد إظهاره أمام الرأي العام بأفضل طريقة:
هو قادر على التحدّي الميداني، والتحصّن في صفوف «الأهالي» لمواجهة غزوة «الآخر».
هو قادر على تحدّي القضاء، بالأدوات نفسها التي يستعملها حزب الله في وجه القاضي بيطار، أي عرقلة التحقيق وتحدّي الأوامر القضائيّة، وعرض العضلات في وجهها.
هو يملك غطاءً مذهبياً سميكاً، كالذي يمتلكه الآخرون، من وزراء ونواب وأمنيين ورؤساء ترفض مرجعياتهم الطائفيّة المسّ بهم بـ«استنسابيّة»:
مَن يريد الاستماع إلى جعجع، فليستمع أوّلاً إلى نصر الله.
مع كلّ ذلك، كان المشهد كافياً لإحراج الكثير من الأطراف السياسيّة التي تحسب نفسها، عن حق أو غير حق، في صفوف «القوى التغييريّة»:
كيف تتعامل مع هذا الاصطفاف الذي وضع جعجع في مواجهة أمنيّة قضائيّة مذهبيّة صريحة مع حزب الله، ومن يقف تحت مظلّة الحزب داخل النظام؟ كيف نتعامل مع شخص يعرض عضلاته في وجه الحزب، مستعملاً لغته وأدواته ومنطقه؟
ثمّة من فضّل عدم التعليق على المشهد بأسره، للابتعاد عن المفاضلة بين قطبَي المواجهة المستجدة، وهذا تحديداً ما لجأت إليه الغالبيّة الساحقة من القوى السياسيّة «المعارضة».
وهناك من استسهل ركوب موجة التحدّي المذهبيّة، والعودة إلى حضن الطائفة الدافئ، كحالة ميشال معوّض الذي اعتبر استدعاء جعجع استهدافاً سياسيّاً لا قضائياً.
أما البعض الآخر، كحالة حزب الكتائب مثلاً، فتفنّن في التملّص من التعليق على الاستدعاء نفسه، عبر رفض المقايضة بين ملف تحقيقات المرفأ وملف استدعاء جعجع.
في كافّة ردود الفعل هذه، كان المشترك هو الحرج من استحقاق التعليق على الحدث، والرغبة بتفادي الصراحة في اتّخاذ موقف منه.
مَن يراقب معارضة جعجع لـ«المنظومة»، كما يسمّيها، لا يمكن أن يعثر على نقطة واحدة تميّزه – في جوهر مشروعه – عن النظام القائم وأدواته. فباستثناء معارضة القوّات لسلاح حزب الله، كنتيجة لتموضعها في اصطفاف إقليمي وطائفي مضادّ، لا تقدّم القوّات أي رؤية مختلفة للحكم: لا من ناحية الطائفيّة السياسيّة، ولا من جهة النموذج الاقتصادي أو الحلول المطروحة للأزمة الماليّة، ولا حتّى من جهة أدوات المواجهة كما تبيّن أخيراً. في جوهر الأمر: نزاع جعجع مع حزب الله هو نزاع من داخل النظام السياسي نفسه، لا أكثر.
هنا يفرض السؤال نفسه: كيف تصبح مواجهة من هذا النوع، بين جعجع وحزب الله، موضع حرج لمن يقول أنّه في موقع المعارضة للنظام؟ بل وكيف تصبح هذه المواجهة أداةً من أدوات تعويم جعجع ونفخه أمام الرأي العام؟ مع ضرورة الإشارة إلى العلاقة ما بين السؤالين: فتعويم الرجل شعبيّاً، بعد هذه المواجهة، هو تحديداً ما يحرج الكثير من القوى البراغماتيّة التي لا تريد أن تخوض في اتخاذ موقف واضح من مواجهته الأخيرة.
في الواقع، تكمن الإشكاليّة الأولى في أن المعارضة، بتنوّع أطيافها، وباختلاف جديّة مقارباتها وأحقيّة انتمائها لمصطلح «القوى التغييريّة»، لم تطرح طوال الفترة السابقة مشروعها، أو مشاريعها المتنوّعة، لمقارعة النظام ومواجهته، كما لم تطرح فعلاً خريطة طريق تحدّد أدوات المواجهة وأولويّاتها. وبـاستثناء الحديث عن أولويّة الإطاحة بـ«كلّن يعني كلّن»، أو أهميّة الاستحقاق الانتخابي كلحظة تغييريّة حاسمة، لا يمكن العثور في ذهن الرأي العام على فكرة واحدة تشخّص البديل الذي تقدّمه هذه المعارضة في السياسة والاقتصاد.
معارضة هشّة من هذا النوع هي تحديداً ما يفتح الطريق أمام جعجع لتصدّر المشهد وتسويق نفسه في الشارع. إذا كان المطلوب حاليّاً يقتصر على تحدّي هيمنة بعض قوى النظام السياسيّة، بمعزل عن شكل هذه المواجهة أو هدفها، فها هو جعجع يستعرض نفسه: بعضلاته في الشارع، وقدرته اللوجستيّة والتنظيميّة في الأحياء والقرى، وقدرته على تحدّي حزب الله بأدواته وخطاباته وأساليبه نفسها، مع الفارق الكبير طبعاً في حجم القوّة والقدرة.
ما يعوّم جعجع اليوم ليس قوّته نفسها، بل غياب البديل الجدّي للنظام.