أجندة المرحلة أو ضرورة البحث عن جنس الملائكة
الابتعاد عن الخلافات «الأيديولوجية»
تسود في أوساط المعارضة نظريّة مفادها أنّ الفرصة الأكبر والأهمّ للتغيير قادمة خلال الأشهر القليلة المقبلة من خلال الانتخابات النيابيّة. وطالما أن اقتلاع «السلطة» مطلوب كخطوة تسبق أي فعل آخر، فلا معنى «للخلاف على جنس الملائكة» وإضاعة الوقت في مناقشة الأولويات والتوجّهات «ذات الخلفيّة الأيديولوجيّة».
لا يأتي توصيف الخلافات بعبارة «الأيديولوجيّة» هنا من قبيل التوصيف العلمي، بل من قبيل ذمّ الرأي الآخر عبر الإشارة إلى قلّة براغماتيّته، أو على الأقل، للإشارة الضمنيّة إلى حسابات فكريّة خاصّة قد تتعارض مع متطلّبات المرحلة.
بهذا المنطق الإشكالي، يطرح هؤلاء الأسئلة التالية:
- ما معنى الخلاف حول جدوى أو عدم جدوى بيع أصول الدولة بالجملة أو المفرّق، أو الخلاف على إعادة رسملة المصارف وطريقة توزيع خسائر النظام المالي، طالما أن غريمنا جاثم في قلب الدولة ويحول دون أي معالجة جديّة؟
- ما معنى البحث في التفاصيل، طالما أن الأساس والأهم، أي قدرتنا على الفعل السياسي، مشلولة بوجود هذا النظام؟
- هل فعلاً نريد وضع معايير في البحث عن شركاء في السياسة، في مقابل أقذر «طبقة سياسيّة» يمكن أن تحكم البلاد؟
- ألا يمكن تأجيل الحديث عن بعض النقاط الشائكة: كالسلاح، ورساميل المصارف، والخصخصة؟
بناء أوسع تحالف انتخابيّ
من يقدّم هذا الطرح الذي بات الآن طرحاً شائعاً يلقى رواجاً منقطع النظير، لا يطلق كلامه كطلقة عبثيّة في الهواء. في السياسة، ثمّة ما هو مطلوب اليوم على حساب أي شيء آخر: تقديم أوسع تحالف ممكن، بصورة منسجمة.
تحالف يعبر خطوط التماس الإيديولوجيّة التقليديّة، ويضع اليمين إلى جانب اليسار، والممانعة إلى جانب الأنتي-ممانعة، ولو عبر تجاوز الحديث عن أجندة المرحلة. ويصحّح خطايا الحرب الأهليّة بوضع ميليشياتها التائبة التي غسلت ذنوبها في 17 تشرين، على طاولة واحدة جنباً إلى جنبنا، فنكون قد قدّمنا نموذجنا للمصالحة والمصارحة.
لنضع جانباً إذاً البحث عن جنس الملائكة.
هكذا نخرج إلى الشعب اللبناني بعبارة «كلّن يعني كلّن»، التي تكفي في هذه الحالة لأن تكون شعاراً جامعاً وبسيطاً، سريعاً وسهل الهضم، وقابلاً للتسويق بإعلان من بضع دقائق على شاشة تلفزيونيّة. وهذا الشعار أكثر جاذبيّة طبعاً من الحديث عن فجوات الخسائر وتوزيعها العادل، أو الكلام عن عمليّة إعادة الرسملة وغيرها من الكلام المعقّد الكفيل بإزعاج المشاهد.
وفي كل الحالات: لماذا نبحث في جنس الملائكة يا جماعة؟
ولكن…
هناك عدد من الإشكاليات في هذا الطرح الذي يبدو منطقيًا، تبدأ بتشخيصه لما يسمّى اليوم «المنظومة».
إذا كانت المنظومة عبارة عن مجلس وزراء، أو حتّى مجلس نيابي، فالرهان على الانتخابات وحدها ممكن، على قاعدة «كل شي بوقتو حلو». لكنّ تجربة الفترة الماضية، خصوصاً تجربة حكومة حسّان دياب، أظهرت أن هناك منظومة عميقة أبعد من السلطة بمؤسساتها الدستوريّة المعروفة، منظومة تتشعّب نقاط نفوذها ما بين الميليشيا والمصارف ومفاصل السلطتين النقديّة والقضائيّة.
في الواقع، ولهذا السبب بالتحديد: لا يوجد – من الناحية النظريّة – ما يمنع أن تصل إلى سدّة السلطة التنفيذيّة حكومة لا تتمثّل فيها معظم الأحزاب الحاكمة اليوم، وأن تُقاد من هذه المنظومة إلى أجندات أسوأ من تلك التي عملت من أجلها حكومة حسّان دياب. وتزداد هذه الخشية إذا سمعنا بعض نظريات أحزاب المعارضة التي تتطرّف اليوم على يمين خطة جمعيّة المصارف ورياض سلامة، والتي تدفع المرء إلى الترحّم على ماري كلود نجم وحسان دياب وغادة شريم.
هنا يصبح البحث عن جنس الملائكة مسألة مشروعة.
من تمثّل المعارضة؟
بعيداً عن المزايدة الإيديولوجيّة، بإمكان بعض مجموعات المعارضة أن تكوّن قواسمها المشتركة التي تتخطى التباينات في التوجهات العامّة. لكنّ ذلك يفترض أن تحدّد هذه المجموعات أجندة العمل الخاصّة بها، والمعارك الأساسيّة التي ستخوضها، والأهم: طبيعة الفئات الاجتماعيّة التي ستعمل لأجلها خلال الفترة المقبلة، وخصوصاً في ملفات توزيع الخسائر والمعالجات الماليّة.
يُفترض أن يسبق هذا المسار البحث عن طاولات التفاهم الموسّعة، وأن يسبق افتراض تكوين هذه الطاولات بمعزل عمّا ستحارب من أجله. كما يفترض عدم السخرية من البحث عن هذه الأجندة، باعتبارها بحثاً في جنس الملائكة.
شكّل عدم وجود هذه الأجندة في مرحلة حكومة حسان دياب، والصراع على توزيع الخسائر، السبب الرئيسي وراء عدم تجاوب الشارع مع دعوات المعارضة للتحرّك والمواجهة. ومن يفترض أن الرأي العام سيتجاوب اليوم مع المعارضة في معركة سياسيّة بحجم الانتخابات النيابيّة دون أن تثبت أنها تمتلك مشروع حكم، أو على الأقل مشروع مواجهة واضحاً، فسيكون قد بنى طموحاته على سراب.
إذا أرادت المعارضة البحث عن عناوين المواجهة التي يمكن أن تجمع ما يمكن جمعه من مجموعاتها وتنظيماتها، فالساحة أمامها:
ها هي الحكومة تحضّر لتعديل خطة التعافي المالي، وصياغة خطة تقلّص عبء الخسائر على رساميل المصارف، وهو ما بشرنا به ميقاتي نفسه حين قال إنّه سيفاوض شركة لازارد لوضع مقاربات أكثر واقعيّة. خلال أسابيع قليلة، ستكون المفاوضات مع صندوق النقد قد بدأت، على أساس الخطة الجديدة. ومن يعتقد أن مسألة تحميل الخسائر ثانوية، فلينتظر فاتورة مؤسسة كهرباء لبنان الجديدة كما تدرسها الحكومة اليوم، أو فلينتظر كلفة الاستيراد بعد تلزيم عمليات المرفأ للشركات الفرنسيّة الباحثة عن تحصيل ثمن مبادرة ماكرون.
فجوة الخسائر كبيرة، ومعارك توزيعها لم تنتهِ بعد. إذا أرادت المعارضة جدول أعمال لها، فالاستحقاقات القادمة خلال فترة قصيرة جدّاً مليئة بالتحديّات.
فلنبحث عن جنس الملائكة إذاً.