رسالة من عواطف، إليك
صديقي العزيز،
قرأت نصّك عن السعادة.
التفتُّ إلى مزهريّتي ذات النقوش الهندية المفرغة من الأزهار لأشهر، على غير عادة. عندما توقفت السماء عن المطر، وضعت شمسيتي الصغيرة فيها. هذه إهانة فجّة للإناء ولحبّي للزهور.
قرأت نصّك عن السعادة… فاشتريتُ باقةً باللونين الأصفر والليلكي.
يقال في علم النفس أن محرّكنا العاطفي يندفع بستّة مشاعر أساسية: الفرح أحدها. أما الخمسة الباقية، فهي الخيبة، والغضب، والخوف، والاشمئزاز والمفاجأة. لو أنّك لم تصف تفاصيل السعادة وتنكرها في آن، لما استطعت أن أكتب هذا النص. أنا يا صديقي، غارقة بين المشاعر غير السعيدة، وأخشى هذه المشاركة، أخشى الذبذبات السلبية.
لكنك سهّلت الطريق، وسأسير باتجاه فرحة كالتي وصفتها، وأنكرتها: نضحك، ليس لأننا سعداء لكننا نضحك.
أنا يا صديقي، ككثر في هذه البقعة، يصيبني القلق… وعندما يسيطر: أضحك. هل كنت تعرف أنّنا نضحك قلقاً؟ وهل تعرف أن القلق بالنسبة لعواطفنا هو كرجال الأمن بالنسبة للمتظاهرين؟ ما أن تحاول عواطف التعبير عن حضورها، حتى يكشّر القلق عن أنيابه بابتسامة أو حتى بنوبة من الضحك، تختفي العواطف قسراً.
تضحك ليس لأنك سعيد، وأنا لا أبكي لكنّني حزينة. أشعر بالحزن يمتزج بالخيبة والغضب.
توقّف وجهي عن الابتسام وعن الانفعال منذ شهرين. اقتنصُ اللحظة التي لا ينتبه إليّ أصدقائي فيها بجلسةٍ ما، حتى أريح عضلات وجهي من عبء التعبير. أمسكتْ بي صديقتي، أقف في منتصف بركة المياه المنعشة، بلا تعابير، بوجه شارد… مازحتني فضحكنا، لكننا كلتينا – نعلم – لم نكن سعيدتين.
تقول المعالجة أن البكاء في منتصف الغضب هو استسلام.
أتذكر الليلتين الأوّليين من انتفاضة تشرين؟ أتذكر النيران التي اشتعلت في وسط المدينة؟ النار فقط اشعرتني بالهدوء. هدوء مماثل لمفعول التمدّد في يوم صيفي على رمل الشاطئ تحت أشعة الشمس.
الشمس، تلك الكتلة المشتعلة على بعد مليارات وحدات القياس، لا تزال تستطيع أن تخترق مسامّي وأن تغيّر لون جلدي. هل فكّرت يوماً بحجم الغضب المكتنز في الشمس، أو الذي جعلها تشتعل؟
لو تعلم كم كنت أودّ لو تكاتفنا وشكّلنا انفجاراً، لو عرفنا كيف نغذّي النيران يوم اشتعلت، واخترقنا مسامّ هذا الجسم الحاكم وغيّرنا جميع الألوان.
في السياسة تتفاءل النسويّات بالغضب.
هكذا يبدأ الشرخ بيننا وبين المجموعات السياسية التي نحاول الانتماء إليها. السياسة كرجالها التقليديّين: براغماتية ودبلوماسية. وأنا بقيت لمدة طويلة دبلوماسية. إن هذا الألم المكتنز بين كتفي هو وليد الدبلوماسية في التعامل مع هذه الإهانة العميقة الراسخة، المستمرّة والمتمادية في حقّنا.
هل قرأت لسارة أحمد عن «النسويات قاتلات البهجة»؟ سأعطيك لمحة، الجملة الأخيرة من المقال الطويل: يمكن تواجد السعادة مع الدعوة للسعادة. يمكننا أن نكون قاتلات بهجة، ونحن بالفعل قاتلات بهجة. فلنتمتع بالقصدية.
أشعر أن لا سبيل للسعادة العامة بعد الآن، لهذا يصح أن نسميها حرباً.
أتذكر كيف اتفقنا على الوصف: هذه حرب شنّت ضدنا لسنوات، ونحن ندافع عن أنفسنا؛ لو تعلم كم أستسيغ القول أن فرحنا الآن بات محكوماً بقتل بهجتهم، لا احتمالية بتقاسم السعادة في المرحلة الحالية. ولو تعلم كم أخاف مما أقول، لأن بهجتنا أيضا اليوم هي موضع سؤال مشروع، ولست أدري ان كان علينا أن نقتلها أيضا أم أن نخفيها!
على ما يبدو يا صديقي، أن هناك نوعين من محفّزات القتال: الألم والثقافة. أما المقاتلون، فإمّا تذوقوا الألم، أو استشعروا قلّة العدل انطلاقاً من ثقافتهم.
هل تتذكر النقاشات التي دارت اثر احراق مبنى بلدية طرابلس قبل أشهر؟ أستعيد معها كل الكلام عن الطابور الخامس، والمندسين والمشاغبين. يصعب على المقاتلين من ثقافة أن يتفهموا أشكال التعبير عن الغضب المتولد من ألم مكبوت. بالمقابل، يصعب على من ورث الألم جيلاً بعد جيل أن يفهم هذا النقاش حول التنفس بعمق والتصرف بسلمية.
أعتقد أن سوء الفهم بين المقاتلين من الضفتين هو سبب تأخرنا في تحوّلنا إلى كتلة مستمرة الانفجار والاشتعال، كالشمس، قادرة على تغيير شكل الحياة والإطاحة بكل ديناصورات عصرنا.
بالحديث عن الغضب، هل كنت تعلم أنّ للغضب أماكن تموضع في الجسد، وهي تتأتى عن وظيفته الدفاعية، وأنّ الانفعال الغاضب يأتي كردّة فعل على شعور آخر كالخوف مثلاً؟ فلو حاول شخص أن يسرق حقيبتي، سيكثّف غضبي منه قوّتي في يديّ ورجليّ، أركض خلفه وربما أعرّضه للأذى لاسترجاعها.
لكن، ماذا لو كان السارق مسلّحاً؟
هكذا هي حالي، وربما حالنا. أشعر أنّ القوة النابعة من غضبي تتكثّف وتتبخّر، ويتجدّد شعوري باللاجدوى في كلّ مرّة.
قبل أشهر كنّا نسير في الشوارع، نقول إنّ خوفنا قد سقط، خوفنا من الزعيم. لكنّني اليوم أشعر كيف عاد هذا الخوف ليكون المحرّك الأساس ليوميّاتي. أصدقائي كذلك! هل سقط الخوف فعلاً أم أننا ادّعينا ذلك؟ ربّما فهمنا بعد تفجير المرفأ أنّ الخطر المحدق فينا أكبر بكثير من حجم شعورنا بالخوف. ربّما، شعرنا أيضًا بخوفنا من بعضنا بعضاً، مثلاً خوف المقاتلين من الثقافة، من عنفية المقاتلين عن ألم.
صديقي، أكاد أجزم أن خوفنا من بعضنا عصيٌّ على السقوط في القريب. كيف يسقط الخوف من دون أن نعالجه؟ نحن نحمل إرثاً من الخوف، الخوف من الحروب، من الرصاص وصوت انفجار الصواريخ…
يوم الثامن من آب 2020، سرنا في تشييع رمزي من شارع الجميزة المقابل لمرفأ بيروت وصولاً إلى ساحة الشهداء واللعازريّة ورياض الصلح. ماذا شعرت وقتها؟ بالحزن، الاشمئزاز، الغضب، الخوف، المفاجأة… يومها لم تعطِنا القوى الأمنية الوقت الكافي للحداد حتى. سرعان ما أثقل الهواء بالدخان المسيل للدموع. لا أزال أذكر كيف تكثّف الخوف في قدميّ بينما أتفرّج على المصابين برصاص رجال الأمن، وهم يُنقَلون الى سيارات الإسعاف، تحت قنابل الغاز التي تتساقط كالمطر من السماء. تشابُك المشاعر أثقل حركتي يومها، فتباطأت خطواتي كلّما فكّرت أنّني لا أريد أن تخترق قنبلة، ستسقط في الأمام، رأسي. ثم تسارعت خطواتي نفسها كلما تخيّلت أن قنبلة أخرى ستقتحم رأسي، وأنا لا أزال في الخلف.
انعدم الأمان تماماً يومها، وأكاد أجزم أنه منعدم بالنسبة لي بنفس الوتيرة حتى هذه اللحظة.
لقد أخبرني صديق بعد وصوله الى بلد لجوئه الأوروبي أنه اعتاد أخيراً أن يرى رجال الشرطة في الشارع ولا يخاف، وقد فرحت له كثيراً لتخلّصه من خوفه العميق.
نحن هنا، في هذه البقعة، يكمن خوفنا في الأساس في مصدر علاجه، يكمن خوفنا من الأمن نفسه. يسعى النظام باستمرار لجعل الأمن أولوية، وفي كل مرّة يفعل ذلك، يجدّد عن سابق تصوّر وتصميم خوفنا، ويوقظه في أعماقه.
الغضب، الخوف، الحزن، الخيبة، الاشمئزاز، هذه مشاعري اليوم. أنا مثلك صديقي العزيز، أضحك (أحياناً) لكنني لست سعيدة.
مــــــلــــــف
سجلّ الانهيار
يحاول ملف «سجل الانهيار» أن يلتقط معالم ومعيش حالة انهيارنا الحالية. كل أسبوع، كلمة أو ممارسة أو مكان أو عادة أو فكرة، يتناولها كاتب أو كاتبة، لكي يـ/تصف تحوّلاتها أو التغييرات بمعانيها. على مدار الأسابيع والنصوص، نطمح إلى بناء أرشيف مفتوح أو قاموس متعدّد الأصوات لحالة الانهيار، علّنا نجد فيه بعضًا من الثبات في تشارك التجارب والمعاني. الدعوة مفتوحة للمساهة في هذا الملف، من خلال اختيار كلمة (قد تكون ممارسة أو إحساس أو عادة أو مكان…) ومحاولة وصف مآلاتها بعد أكثر من سنة من التحوّلات.