عن تَعَبنا من المشهد
نازلة بـ4 آب؟
ما بعرف. يمكن. لازم.
التضامن مع أهالي الضحايا واجب سياسي. وأنا لم أشارك بعد في أي تحرّك دعت إليه لجنة الأهالي. هكذا، وجدت سبباً منطقياً وأخلاقياً لحسم خياري بالمشاركة. فرغماً عنّي، «أنزل» بصحبة أمّي إلى المرفأ. هي أيضاً كانت قد حسمت أمرها. لم نعد نجد جدوى في النزول إلى الشارع، ولكنّنا لا نريد البقاء في المنزل. لا نريد مشاهدة الحدث – أصلاً الكهرباء مقطوعة – فننضمّ إليه.
نمشي في شارع الجميزة باتجاه شركة الكهرباء ونلتحق بإحدى المسيرات. شمس آب لاهبة. الحرارة مرتفعة والهواء ثقيل والكمّامة لا تساعد. شوب. عرق. دبق. الهتافات أصبحت عتيقة. علكها الانهيار. نترك المسيرة ونسلك إحدى الطرقات الفرعية التي تربط الجميزة بأوتوستراد الصيفي. نمشي بصمت على الأوتوستراد المقطوع باتجاه المرفأ. على يسارنا الإهراءات وعلى يميننا مباني الجميزة المنكوبة.
تسألني أمي شو صار بالناس يلي كانت مارقة من هون؟
لا تريد أن تتخيّل لوحدها.
لا أعرف. أحاول أن أتخيّل. أحاول أن أتصوّر المشهد. سيارات مشتعلة. جثث. زجاج محطم وسائق يحاول الخروج من شباك السيارة. صراخ. امرأة على الأرض لا تفهم ماذا حصل. لا أعرف ماذا حصل للّذين كانوا هنا، وما الذي شعر به أولئك الذين وجدوا أنفسهم في مهبّ الانفجار، على بعد أمتار، على بعد كيلومترات منه. ولكنّني منذ 4 آب، أجد نفسي أتخيّل مشهد الموت. في البيت. في الشارع. في السيارة. في المستشفى. على البلكون. في البحر. السيناريوهات كثيرة: ارتطام، احتراق، انشطار، اختناق. والموت واحد. ولنا نحن الأحياء أن نتخيّل.
«ثالث أقوى انفجار غير نووي في العالم». جملة نكرّرها لمحاولة تصوّر قوّته، لمحاولة وصف حجم الدمار الذي خلّفه، لمحاولة تبرير هول الصدمة علينا. يتهافت فنانو الكوارث لتشييد التماثيل التذكارية والأعمال الفنية. نبحث عن قيمتها المعنوية ولا نجد سوى التفاهة. لا الأرقام ولا الرموز تعني لنا شيئاً. فنحن عاجزون عن تمثيل المأساة، عاجزون عن التعبير عمّا حلّ بنا. «باخرة الموت»، «سلطة النيترات»، «عهد الأمونيوم»، «تفجير المرفأ»… جمل وعبارات نبتكرها لنحاول من خلالها أن نسوّغ لغةً نتكلم بها عن واقعنا. لكن حتى اللغة فقدت قدرتها على تحريك أي شيء فينا.
4 آب ليس مجرّد نهار أو حدث. هو تكثيف لكامل محاولاتنا الفاشلة للتعبير عمّا حصل. هو شعورنا اليومي بعجز وجودي تجاه ما حصل ويحصل. هي مشاهد الموت والدمار التي لا تفارقنا، مشاهد لا تنتظر إذناً للظهور، ولا تأبه للتواريخ والمناسبات الرسمية. لا أفهم معنى أن نحيي ذكرى 4 آب. فهذا النهار لم يترك خيالنا. أصبح خيالنا. ماذا حصل هنا… ماذا حصل هنا… ماذا حصل هنا…
عام على الفاجعة.
حشود. مشانق. أعلام لبنانية. كمّامات. صور الضحايا. صوت ماجدة الرومي يصدح من السبيكر، صوت رصاص، «ثورة! ثورة!»، صفارات موكب الدفاع المدني، طيارات «حربية» ترش بويا حمراء في السماء، «نبيه برّي بلطجي»، «سمير جعجع إرهابي». هل هذا يحصل فعلاً؟ الهواء ثقيل والكمامة لا تساعد. أريد أن أعود إلى البيت ولكني أنتظر دقيقة الصمت على روح الضحايا، لا أعرف لماذا. أنتظر الساعة 6:08 لأخرج من المشهد، على الأوتوستراد، وأعود إلى داخل المدينة حيث نختفي كلّنا. هناك، تبتلعنا الأبنية، فنعود إلى غرفنا الضيقة لنشاهد المدينة من شرفات البيوت، من وراء نوافذ زجاجية. هناك، ننتظر انقضاء النهار أمام شاشاتنا، على وقع صوت موتير الحي.
على الشاشة قداس يحييه البطريرك مباشرة من المرفأ. تراتيل حزينة وصفوف كراسي بلاستيك لأهالي الضحايا. المشهد درامي. «كر وفر» في محيط البرلمان وقنابل غاز وعسكر. تكتمل الصورة. ثمّ يطل علينا مارسيل غانم ببدلةٍ سوداء ليذكرنا، علّنا نسينا، أن اليوم هو يوم حداد وطني وأنه حزين مثلنا. نحن سئمنا من منظره. ضجرنا من نبرته.
ليلة 4 آب، حلقة جديدة من برنامج عتيق لا يريد أن ينتهي. المشهد درامي ونحن مللنا المشاهدة.