مجزرة التليل: حربهم السياسيّة ضدّنا
مفيدٌ تتبّع تسطيح مجزرة عكّار من قبل الطبقة الحاكمة، وردّها إلى أسبابٍ ثانوية تتعلّق بخلافاتٍ ثانوية، في حين أنّ الموضوع بعمقه يفضح، من جهة، وحدة جهاز الدولة «الرسمي» والأطراف «غير الشرعية»، ويوضّح من جهة أخرى الاقتصاد السياسي لمنطقةٍ تعيش على الشبكات، شبكات التهريب والاحتكار وغيرها.
فوق الدكّة، فإنّ تبعات المجزرة على من تواجَد هناك من جهة، وعلى أرباح المتسبّبين بها من جهة أخرى، تؤكّد معادلة الـ«طبقة ضد طبقة».
طبقة فَوق، دَرَّ لها تخزين البنزين وتهريبه مليارات الدولارات، وطبقة تحت، مات منها من انتظر على طوابير البنزين ساعاتٍ أملاً بملء خزّان السيّارة بـ20 ألف ليرة.
طبقة فوق، لم تجد مانعاً في تنييم المازوت في الخزّانات ريثما يُرفَع الدعم كي تتضاعف الأرباح، وطبقة تحت، مات منها من وقف جهاز تنفّسه بعدما انقطع المازوت.
طبقة فوق… وطبقة تحت… وتقاطعات تتعلّق بالطوائف والمناطق والهويّات لتزخيم الصراع. وفيما تُزيد يوميّات لبنان من حدّة التناقض بين الطبقتَين، يسعى من هم فوق إلى طمس هذا التناقض.
ما يسمّونه «السياسة»
فأتى مثلاً من نصطلح على تسميتهم بالعرصات، ليقولوا لنا، إن كانوا من جهة تيّار المستقبل، أنّ التيار الوطني الحر افتعل انفجار مخزن التليل؛ وإن كانوا من جهة التيار الوطني الحر، ليقولوا أنّ تيّار المستقبل مسؤول عن الانفجار. غير أنّ خلاصات التحقيقات تدلّ على أنّ كلَيهما دافنينه سوا.
ثم أتى رئيس الجمهورية ليعزل عكّار ويُدعوشها، كونها – بمنطقه – تخصّ خصمه. «عناصر متشدّدة»، هذا كل ما رآه الرئيس العماد، في انفجار مخزن كان العكّاريّون يغرفون بنزينه بأيديهم لتعبئة غالونات الـ5 ليتر، بعدما احتكر كارتيل النفط (الذي يخصّ صهره) ما يشاء.
ثم أتى الحريري ليستغلّ الفاجعة مستكملاً معركته ضد العهد، مطالباً باستقالة عون منذ ساعات الفجر الأولى، مستخدماً انفجار المرفأ كسندٍ لتبرير هجومه. فات الحريري أنّه هو نفسه من يخوض حالياً معركة تمييع إسقاط الحصانات في المجلس النيابي.
ثم أتت «المعارضة»، المنتفضة على الفساد فقط، لتطالب بوضع لبنان تحت وصاية دولية، لأن «الفاسدين يتسبّبون بإبادة جماعية للشعب اللبناني». وكأنّ الشعب اللبناني يأتي هكذا، فرد صبّة، وكأنّ من يقومون بهذه «الإبادة» ليسوا من هذا الشعب.
«السياسة» الفعلية، أو اقتصاد منطقة تعتاش على شبكات التهريب
بين كل ما ذُكر، رواية طويلة عريضة من السلطة إلى المعارضة المزعومة، لا «طبقة» فيها ولا «شبكة»؛ بل مساعٍ حثيثة لإعطاء ما حصل طابعًا مؤسّساتياً، وكأنّ هناك «دولة» مسؤولة عن «شعب» وحزب سيّئ وآخر خَيّر…
بين كل ما ذُكر، لا «طبقة» ولا «شبكة»، بل مسعى لمأسَسة حرب تُشنّ ضدّ فئة محدّدة جداً من المقيمين (ذوي الدخل المحدود، أبناء الأطراف والضواحي، العمال الأجانب…)، وكأن مؤسّسات الدولة ستتدخّل لتنقذنا من المؤسّسات الخارجة عن الدولة…
غير أنّ الحبكة تكمن في أنّ «الشبكة» تعمل على مستويَين.
أوّلهما إقليمي، من دون أن يخفى على أحد أن حزب الله هو اللاعب الأساسي في هذا المجال. هو دينامو لمحور يعيش على المعابر غير الشرعية، لبنان مجرّد نقطة عبور فيه، مهما تنكّر الأمين العام للموضوع – كما فعل في خطابه الأخير المندّد بالمهرّبين، بعد مواقف في مديح التهريب.
المستوى الثاني، هو ذاك الداخلي، الذي يرتبط بدوره بالأوّل. غير أن حزب الله ليس لاعباً أساسياً في كارتيل النفط المحلّي – اللهم إلّا إذا حجز حصّته منه إن نقشت معه بدعة البنزين الإيراني بالليرة. محليّاً، الكل دافنينه سوا، صحيح، لكن للعهد الحصّة الأكبر، عبر رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، بدوره عبر أوسكار يمّين، صاحب شركة الكورال، التي نافست ملك الكارتيلات وليد جنبلاط.
أمّا حملة الدهم الفجائية والتوزيع والمصادرة التي قادها الجيش، فلا تنفصل بأي لحظة عن اقتصاد كارتيل النفط وديناميّاته. يقظة جوزف عون الفجائية ليس فيها من البطولة شيء، بل هي، إن دلّت على أمر، فهو أنّ الأجهزة الأمنية «الرسمية» كانت على كامل دراية بآليات عمل الاحتكارات والأسواق «غير الشرعية»، غير أنّ المصلحة والأرباح تتغلّب على فكرة «الدولة» والمؤسسات.
هذه مجرّد عناوين عريضة، نُتَفٌ عن موضوعٍ قد يكون من الجدير تفنيده، بعنوان «الاقتصاد السياسي لشبكات التهريب». لكن في الخلاصة، وحده رياض سلامة، من بين كل المذكورين، من قالها بحقّ، من جاهر بحرب الـ«طبقة ضد طبقة»: وبيبقى الي بيقدر يعيش، قال في كلمته الأخيرة.
لكن على ما يبدو، ضحايا مجزرة عكّار ما كانوا من بين هؤلاء.