وقود النظام
1
قوم دوّر وطلاع عالمحطّة الفوقانيّة، اللي براس الطلعة. ما توقف بالصفّ. فوت من ورا، من مدخل غسيل السيّارات. نزال وعرّف حالك عَ صاحب المحطّة. قلّو نديم باعتك.
مين نديم؟
نديم بكون إبنو لمنصور.
آه أوك، وشو علاقتو إبنو لمنصور بصاحب المحطّة.
بكون صاحب المدرسة اللي حاطط ولادو فيا وبعلّمن كمان. صاحب المحطّة بيستمنّى يخدمو. قوم طلاع.
2
كلّ شي صار إلو ديلر. جميل عطاني رقم ديلر بنزين. حكيتو. إجا عالموتسيك معو غالونين بيطلعو نصّ تنكة. نزل وبلّش تعباية. قلتلو لونن غريب. ابتسم وخلّص تعباية. أخد حقن ٥ مرّات اكتر من سعر المحطّات. مدري بشو ضاربن كاين.
3
بعد ما كان صار إلنا تلات ايّام بالضيعة وصار في شوية إلفة بيني وبين سلام، بلحظة غيّرت الحديث، اتطلّعت فيي بعيوني، وطّت صوتها وقالت:
معك بنزين؟ بدّك تعبيّ؟
مرسي، عبّيت قبل ما اطلع وإلّا ما كنت قدرت أوصل لعندكم. ليش عم تسألي؟
لأنو صاحب المحطّة بالضيعة، بيفتح عالـ6 الصبح وبهالوقت بيبعبّي بس لأهل الضيعة. إذا بدّك تعبّي تَ آخدَك مع بكيّر.
مرسي، بعد معي كفاية.
4
بشّار خبّرني إنو عندن مازوت بعد 6 أشهر لقدّام بالضيعة.
5
كيف عمّ تأمنوا مازوت ليضلّوا موتورات هالبرج شغّالين متواصل؟
ما عنّا مشكلة مازوت. عنّا وزير سابق بالبناية.
6
بلا ما ينطر باتريك عَ المحطّة. أنا بيعرفني صاحب المحطّة، بفوّللي بلا نطرة. خلّي يلاقيني بعد شوي. بشفطله نصّ اللي عبّيتن. بِ لَبّو منيح.
7
عديلي عندو محطّة. رحت، شكّيت، وعبّيت بلا نطرة. بس بعدين استحيت من كلّ هالناس اللي ناطرة إلها ساعات ومهترية اعصابها. لقيت محطّة بالشرقيّة ما عليها نطرة كتير. صرت روح عبّي هونيك. وإذا بدّي شي تنكة منّو بقلّو يشيلها عجنب وأنا بجي بآخدها عَ رواق. أصلاً ما فيك تعرف شو بصير إذا شكّيت دغري عالطرمبة. معقول يتعبّى فيك واحد صار إلو ساعات ناطر.
سبع قصص هامشية على عدد أيّام الأسبوع. سبع قصص تشير إلى بداية انقراض المستهلك ككائن مجرّد يقايض عملة بسلعة. لم تعد العملة كافية للحصول على السلعة أو على الكميّة التي تطلبها المستهلكة لموتور البناية أو سيّارتها. فبين العملة والسلعة هذه الأيّام يطلّ بني آدم برأسه… أو بيدَيْه بحالة الديلر.
بُعث الوسيط مجدداً.
أعادته زحمة الطوابير الخانقة في صيف لم يكن ينقص دبقه المعتاد إلّا ثقل الهواء، الذي لم يعد هواءً بعدما تشبّع مازوتاً محروقاً حوّله إلى مادّة لزجة تعلق في الأنف وتسدّه. والأدقّ أنّ الوسيط لم يعد، إذ أنّه لم يختف يوماً.
فهو لم يتوقّف عن تشكيل حلقة وصل بين المواطنة والمعاملات التي تنوي القيام بها في دوائر الدولة (الأمنية، العقارية، القضائية، إلخ). ولا داعي للتذكير بدوره في التوظيفات في القطاعين العام والخاص وإتمام الصفقات… كلّ هذا جزء من آليّة عمل النظام الطبيعية التي يتداخل فيها السياسي بالمعطى الاجتماعي والمصالح الاقتصادية. علاقات متشعّبة ومعقّدة تجعل من شعارات مكافحة الفساد وإرساء الشفافيّة أشبه بتعاويذ مدرسيّة-تكنوقراطيّة قد تصلح لكتابة التقارير وجلب التمويل، لكنّها لا تستطيع الإحاطة بالتداخل ما بين العام والخاص، السياسي والأهلي والاقتصادي والاجتماعي.
لكن هناك فرق شاسع بين ذوبان المواطن المجرّد الذي يتحوّل، فور اجتيازه عتبة الدوائر الرسميّة، إلى إبن تلك العائلة/ المنطقة/ الجماعة ونزع صفة التجريد عنه كمستهلك عاديّ في سوق يجب أن تخضع مبدئياً لمعايير موحّدة. فالاستعانة بواسطة من أجل خفض قيمة «تخمين» شقّة للتهرّب من دفع الضرائب المستحقّة في دوائر الدولة العقاريّة شيء، وشراء نصف تنكة بنزين من أي محطّة وقود في أي منطقة ومن قبل أي مستهلكة، شيء آخر تماماً. فمع انشطار السوق الواحدة إلى أسواق وانفلاش السعر إلى أسعار، هبطت مصطلحات الوساطة – دبّر، ظبّط، مرّق، قطّع، أمّن، سيسر…– إلى حيّز الحياة اليوميّة وسلعها الأساسيّة.
سبع قصص قد تبدو هامشيّة من كثرة تكرارها. فهل هناك سؤال أكثر عاديّة ويوميّة الآن من قدرت تعبّي بنزين؟ فوّل لك؟ دبّرتوا مازوت للموتور؟ وين؟ كيف؟ آيمتى؟ مع مين حكيتوا؟
باستثناء ديلر البنزين الذي يوفّر خدمة منزليّة بأسعار خياليّة (2)، الستّ قصص الباقية تربط السلعة بعلاقات اجتماعيّة، أكثريتها أهليّة – إمّا مناطقيّة (1،3،4) أو عائليّة (7) – وإحداها مرتبطة بنفوذ وزير سابق (5) وأخرى بعلاقة زمالة/ صداقة (6). لا تؤمّن تلك العلاقات السلعة بلا مقابل. فالارتكاز عليها يعيد إنتاجها ويعزّز قدراتها على الفعل، وفي حالة علاقات التضامن الأهليّة تسهّل الفصل ما بين الـ«نحنا» والـ«هنّي». فترسّم من جرّاء ذلك حدود وقوديّة غير مرئيّة تفرز الناس حسب انتماءاتهم العائليّة والمناطقيّة والطائفيّة. فتساهم، وإن عن غير قصد، بقوقعة الناس على أسس علاقات تضامنهم الأهليّة. وقد تؤدّي قوقعة الضرورة على أثر الانهيار الشامل والتفتيت الذي يرافقها، إلى إضعاف إمكانيّة قيام سياسة معارضة شعبيّة، أوسع من إطار النخب المدنيّة، وفق معايير وطنيّّة جامعة أو مصالح طبقيّة موحدّة.
وما يحدث مع الفرد الواحد، من تحت، من خلال الاتكّال على عائلته أو أهالي منطقته بدأ استثماره، وتعزيزه من فوق أيضّاً. فيشير السيّد إبراهيم الصقر أنّه لاحظ قدوم زبائن تأتي من أماكن بعيدة خارج منطقة كسروان وجبيل وتقوم بتعبئة البنزين من محطاتنا بقصد سحبها وبيعها في السوق السوداء. وردّاً على تلك التجاوزات وصدّاً لها، أعلن: لأبناء منطقة كسروان وجبيل والذين ينتمون إلى حزب القوات اللبنانيّة بأن محطّات «الصقر» في جميع فروعها ترحب بهم ولهم الأفضليّة.
بينما تزيد أحزاب السلطة مازوت المولّدات الخاصّة إلى صناديق الإعاشة وغالونات الزيت التي بدأت بتوزيعها في أواخر سنة 2019. فالحريريّة التي ارتكزت في بداياتها إلى توزيع منح دراسيّة جامعيّة عابرة للمناطق والطوائف بالتزامن مع حملها مشروعاً سياسياً أغرى كثيرين وقتها، إنتهت اليوم إلى ماكينة توزيع بونات 500 ليتر مازوت لمولّدات بيروت.
سلطة تقتل، تحمي أركانها من المحاسبة، تدّفع المنهوبين ثمن نهبها لهم، ثمّ تعود بعد كلّ ذلك إلى محاولة إعادة ترميم نفسها بالرخص، من خلال تأمين مناطقها وجماعتها. والتأمين يخضع للقاعدة الذهبيّة للنظام اللبناني وهي تحوير الحقّ إلى امتياز، والمواطنات/المقيمات إلى رعايا. قد تختلف الفئات الوسيطة التي تربط الزعامة بالناس/ الرعايا بين مرحلة وأخرى- قبضايات الأحياء، مخاتير ورؤساء البلديّات، أصحاب المولّدات (؟)- إلا أنّها بالاضافة إلى ذلك، تؤكد السيطرة على الأرض وتحرس الحدود غير المرئية بين الأحياء والمناطق.
سبع قصّص ليست هامشيّة بالمرّة. فهي إن دلّت أكثريّتها على شيء، فعلى فعاليّة ومرونة الشبكات العائليّة-المناطقيّة التي تنشط تلقائيّاً لتأمين حاجات أهلها. ويسهل تفعيل تلك الشبكات فرصة تغذيتها واستتباعها من قبل السلطة التي تجهد لترميم نفسها بعد تآكل شرعيّتها وقبل الانتخابات النيابيّة المقبلة. فيتمّ ذلك عبر وصلها بشبكاتها الزبائنيّة والسعي إلى تثبيت السيطرة الحزبيّة على الأرض من خلال الفرز ما بين المناطق وتحويل المواطنين إلى أهالٍ تحت رعاية الزعيم-الوصيّ.
أمّا إنتاج ديناميّات تعاون وتعاضد بين الناس مبنية على التقاء سياسي خارج أطر التضامن الأهلي (من تحت)، وكسر التحام تلك الأخيرة بشبكات النظام الحزبيّة (من فوق)، الذي يطيح بالمواطنة والحقوق والقدرة على ممارسة سياسة مبنية على مصالح مشتركة، فهو عمل ملحّ… وبالغ الصعوبة.