أسئلة يوم الخميس
ماذا لو؟
ماذا لو كنت جالسًا تحت الشباك، كما أجلس عادة في الساعة 6:08؟
ماذا لو لم أذهب إلى المطبخ لأطعم البسينة في الساعة 6:08؟
ماذا لو لم يتأخّر التاكسي الذي كان يأخذني إلى الجميزة عند الساعة 6:08؟
ماذا لو كنت ما زلت واقفًا في مكاني حيث انهار الزجاج عند الساعة 6:08؟
ماذا لو كنت ما زلت نائمًا…
ماذا لو كنت ما زلت في السيارة…
ماذا لو كنت ما زلت…
ماذا لو…
أسئلة عادت إلى ذهن «مجتمع 4 آب» في هذا النهار، لتذكّر الجميع بأنّهم قيد الحياة جراء صدفة بسيطة، كآلاف الصدف التي تكوّن أي نهار عادي.
ماذا لو نزل حسّان دياب بعد قراءته تقرير أمن الدولة إلى المرفأ وأخذ التدابير اللازمة؟
ماذا لو لم يتأخر أمن الدولة بتقريره وحدّد خطر النترات وأخذ التدابير اللازمة؟
ماذا لو تابع فنيانوس مراسلاته ورفعها إلى الهيئات المختصة وأخذ التدابير اللازمة؟
ماذا لو سأل ميشال عون عن خطورة النترات وأخذ التدابير اللازمة؟
ماذا لو راسل عباس إبراهيم…
ماذا لو لم يسافر نهاد المشنوق…
ماذا لو قرأ…
ماذا لو استفسر…
ماذا لو…
أسئلة لم ترد إلى ذهن مسؤولي النظام في هذا النهار، لتذكرهم بأنّه كان من الممكن تفادي هذه المأساة لو قاموا بأبسط الخطوات الإدارية، كآلاف الخطوات التي تقوم بها أي إدارية طبيعية.
البناء على القطيعة؟
أسئلة الناجين في وجه صمت المرتكبين، وبينهما القطيعة التي تثبّتت البارحة.
آلاف المعزّين الغاضبين في وجه فراغ سياسي ورسمي
فوج الأطفاء في وجه حرس المجلس
دموع ألم في وجه غاز مسيل للدموع
مجتمع بكامل تناقضاته في وجه سلطة قاتلة بكامل صمتها
شتى ممثلي النقابات في وجه تشكيلة القوى الأمنية المسيطرة
كان نهار القطيعة، ولكنّه أيضًا نهار الاعتراف بالطريق المسدود. ففي وجه سلطة فقدت كامل مكامن شرعيتها، حتى شرعية الكلام، دخلنا مرحلة انسداد أطر التأثير والضغط عليها. هي باتت جثة، ولكنّها حاكمة. حاكمة لأنّها جثة. جثة ولكنّها قاتلة. فكان في مشهد العنف البارحة، الضروري والمبرّر، شيء من الانسداد. وكأن السلطة التي هجرت مجلس النواب باتت خارج منوال عنفنا أو غضبنا. فشرعية النظام سقطت، ويتمّ تأكيد سقوطها كل يوم منذ 17 تشرين. فربّما كان كل ما يمكن فعله اليوم هو تأكيد هذه القطيعة وهذا السقوط، ليس فقط في وجه المؤسسات الرسمية، بل أيضًا في وجه منازلهم ومقرّاتهم الحزبية وأماكن عملهم.
لكن يبقى السؤال، ماذا بعد القطيعة؟ كيف نحصّن أنفسنا منهم؟ وأين ساحات الاشتباك الجديدة؟ كيف نحوّل هذه القطيعة إلى نقطة انطلاق مشروع تحرّري؟
خارج الصورة
الألاف في الشارع، وأكثر منهم وراء شاشات تلفزيونهم، في الداخل أو الخارج، لبّوا دعوتهم، دعوة أتت من داخل كل شخص، من عمق غضبه وألمه. لم يكن هناك جهة داعية أو طرف منظّم يمكن أن يتبنى هذا الحشد، خارج الناس أنفسهم الذين أكّدوا عمق الهوة مع السلطة الحاكمة.
لكنّ وضوح هذه الصورة، صورة مواجهة بين «مجتمع 4 آب» و«سلطة النترات»، لا ينفي أنّها جزء من المشهد. فخارج هذه الصورة، معركة ثأر بين عشائر وحزب الله، تسقط عددًا من القتلى. وخارج هذه الصورة، مؤتمر دولي من قبل صاحب المبادرة الفرنسية اليتيمة. وخارج هذه الصورة، صواريخ وغارات إسرائيلية، ومن ورائهما صراع إقليمي. وخارج هذه الصورة، إنهيار مالي وإقتصادي يطيح بإمكانية الحياة في هذه البلاد، انهيار بات مدخلًا لما يمكن أن يكون أكبر موجة هجرة من هذه الأراضي.
فالمعركة ليست فقط مع النظام. أو بكلام آخر، «النظام» ليس فقط تلك المؤسسات التي يتمّ التظاهر في وجهها. هو أيضًا هذه الصواريخ وتلاعب الصراعات الإقليمية فينا، هو أيضًا العنف المتفلت والذي ينذر بالتوسّع، وهو أيضًا الإنهيار الاقتصادي والهجرة والفقر… فالمواجهة مع النظام تتسابق مع وتيرة الانهيار وتزايد العنف وإمكانيات الحرب. المواجهة ليست هي الصورة الكاملة.
عفن القوات اللبنانية
لكنّ وضوح الثورة لم تعكّره أحداث خارجة عنها فقط، بل جاء التعكير على وضوح المواجهة من ضمنها، جرّاء عنف شبيحة القوات اللبنانية، عنف لا يختلف بشيء عن عنف مناصري أحزاب السلطة، رغم ادّعاءات سمير جعجع «الثورية».
فالمسألة هنا ليست عن العلاقة بين الأحزاب المعارضة والثورة، والتي يتمّ مناقشتها في سياق الإنتخابات القادمة. كما أنّ القضية ليست فقط هذه العلاقة المرضية التي تربط شباباً من اليسار اللبناني والأحزاب المسيحية بإرث الحرب الأهلية، وعدم قدرتهم على التأقلم مع واقع جديد بعد ثلاثين عامًا على انتهاء حربٍ لم يعيشوها.
المسألة هي فعليًا مشكلة، مشكلة مع سمير جعجع.
فمنذ انطلاق الثورة، وجعجع يحاول أن «يجيّر» الغضب الشعبي لصالح مشروعه، الذي يمكن تلخيصه بحلمه الرئاسي المستحيل. يتناسى جعجع أنّه «عرّاب» العهد، ومستشاره لحّن نشيده. كما يتناسى أنّ في هوسه منافسة عون، دخل التركيبة الفاسدة، كما تبين من تسريبات «اتفاق معراب». وربّما بسبب فشله إتمام مشروعه الرئاسي، زاد هلوسةً، وبدأ يتخيّل نفسه «الثورة» بكاملها.
لم يحاول جعجع «تجيير» الثورة فحسب، بل أصبح خصمها الأساسي. فلم تمرّ مناسبة إنتخابية إلّا وكانت «القوات اللبنانية» في وجه قوى المعارضة، أكانت إنتخابات طلابية أو نقابية. ولم تمرّ مناسبة إلّا وخسرت القوات في مواجهتها هذه. ومن المتوقع أن يتكرّر هذا السيناريو في الانتخابات النيابية المقبلة. بيد أنّ النتيجة أيضًا ستكون مخيبة للقوات، حيث أنّ أي نتيجة انتخابية لن تكسر انسداد أفق المشروع القواتي الذي يفوق انسداد مشروع «الثورة».
لكنّ المقلق بموقف القوات الحالي هو انحداره العنفي، انحدار يبدو أكثر كعودة للأسلوب الميليشيوي ذاته الذي أنتج ظاهرة ميشال عون في أواخر الحرب الأهلية. فما رشح عن ممارسات وحشية البارحة لمناصري القوات اللبنانية، والتي تشبه ممارسات أحزاب السلطة أو شبيحة النظام (أو ممارسات القوات اللبنانية قبل عملية التجميل التي تلت خروج سمير جعجع من السجن)، تنذر بتحوّل القوات اللبنانية إلى قامع الثورة من داخلها. وكان من اللافت أن عنف أصحاب الصلبان المشطوبة ترافق مع كلمة بطريركهم الداعية إلى نبذ العنف. بيد أنّ التناقض لا يخفي الرغبة المشتركة في تطييف جريمة 4 آب، لإعادة إدخالها في مفاوضات النظام المعتادة.
القطيعة مجدّدًا
في وجه الانهيار وخارج الصورة والعفن بداخلها، كيف نجعل «قطيعة 4 آب» لحظة نؤسس عليها مشروعًا سياسيًا، مشروع ينطلق من الوعي بأنّ «مجتمع 4 آب» ليس المجتمع بأكمله، ولكنّه ضرورة لكي يبقى مجتمع في لبنان؟ فرغم كل شيء، صورة البارحة هي صورة تأسيسية.