عن الرضوخ للخطاب المُهيمِن
شعار «ارفعوا الدعم فوراً» الجامع
لم يحدث أن توافقت الغالبيّة الساحقة من أحزاب السلطة ومجموعات المعارضة على إجراء اقتصادي ما، مثل اتفاق الجميع على ضرورة رفع الدعم الفوري عن جميع السلع الأساسيّة، وإقرار البطاقة التمويليّة كآلية دعم بديلة.
لم يعد هناك نقاش في سبل توحيد أسعار الصرف، أو البدائل الموجودة. المطلوب أوّلاً وفوراً، رفع الدعم.
بالتأكيد، لا يمكن الدفاع عن استمرار حالة الفوضى التي ضربت أسواق القطع منذ أواخر 2019. لكن بدل السؤال عن البدائل المتاحة للخروج من حالة تعدّد أسعار الصرف، وما يمكن فعله لعدم رمي كلفة التصحيح النقدي على أكثر الفئات هشاشة، رُفع شعار «ارفعوا الدعم فوراً» كالخيار الوحيد المتاح على الطاولة.
- بعض مَن رفع الشعار خضع بذلك إلى الابتزاز الذي أشهره المصرف المركزي في وجه الجميع: إرفعوا الدعم لتتوفّر المواد في الأسواق. فليُرفع الدعم لينتهي كابوس انقطاع المواد المدعومة، ولو كانت الكلفة أن تصبح أسعار المواد الأساسيّة خارج متناول غالبيّة المقيمين.
- بعض مَن رفع الشعار كان يدرك بالظبط أي مصالح تمّت حمايتها بهذا النمط من التصحيح النقدي، وأي فئات ستدفع كلفة الصدمة المقبلة. وبذلك، كان هذا الشعار عنوان مجابهة لحماية مصالح فئات معيّنة على حساب فئات أخرى.
- وأخيراً، ثمّة من ذهب إلى هذا الشعار من باب الكسل السياسي، وضعف المخيّلة. الجمهور لا يحبّ التعقيد التقني في الشعارات والخطابات. هنا يصبح الطريق الأسهل الشعار الأقصر والأقرب إلى عقل الجمهور: المشكلة هي الدعم، ولا حلّ إلا بتحرير السوق كيفما اتفق.
«رياض سلامة» كأفق المخيّلة الاقتصاديّة
كان ينقص هؤلاء أن يتساءلوا، كما تساءل رياض سلامة نفسه ذات يوم، عن جدوى الاستمرار بالاعتماد على مصرف لبنان لتمويل أسعار الصرف المدعومة.
كأنّ المصرف المركزي ليس الجهة المكلّفة بإدارة السياسة النقديّة وأسواق القطع، وتحمّل كلفة التصحيح النقدي خلال الأزمات، وحماية المقيمين من تخبطات سعر الصرف.
كما كان ينقص هؤلاء أن يتساءلوا مثلاً عن جدوى أن يبقى الفقراء ومحدودو الدخل عالةً على المودعين والنظام المالي والاحتياطات الإلزاميّة.
كأنّ الخراب الذي يضرب سوق القطع لم ينتج أساساً عن التعامل مع فجوات النظام المصرفي بالسياسة النقديّة، التي حملت الخسائر لسعر صرف الليرة.
فبالنسبة إلى بعض أطياف المعارضة، كان إطلاق مطلب «رفع الدعم فوراً»، بهذا الشكل ومن دون البحث عن الآليات والبدائل، باباً من أبواب الخمول السياسي، خصوصاً حين لا يتمّ الحديث عمّا هو أبعد من هذا الشعار. علماً أنّه كان هناك ألف طريقة للتعامل مع أزمة تعدّد أسعار الصرف، دون تحميل خسائر الأزمة لأضعف فئات المجتمع. كان من البديهي مثلاً:
- أن تُفتح مغارة مصرف لبنان للتدقيق، لفهم تفاصيل الفجوات الموجودة في الميزانيات وأسبابها.
- أن تُعالج فجوات الميزانيات في المصارف ومصرف لبنان من بعدها.
- أن يتمّ التأكّد من إدارة ما تبقّى من سيولة بإجراءات مُقونَنة وواضحة لضبطها، وبإجراءات موازية لمنع التهريب والاحتكار.
- كان بالإمكان بعد كل ذلك الشروع في سياسة توحيد سعر الصرف تدريجيّاً، بنظام مالي قادر على جذب العملة الصعبة، وبسيولة قادرة على ضبط سعر الصرف ضمن هوامش معيّنة.
على حساب محدودي الدخل… مجدّدًا
ما نتحدّث عنه هنا لا يتطلّب من القيّمين على النظامين المالي والسياسي اختراع البارود، كما لا يتطلّب من المعارضين للمنظومة السياسيّة الكثير من التعمّق في كتب الاقتصاد.
فوضى أسعار الصرف ظاهرة لطالما رافقت معظم الإضطرابات الماليّة والنقديّة حول أنحاء العالم، والخروج من مراحل تعدّد أسعار الصرف مسألة لها أصولها وتقنياتها، خصوصاً حين يكون الهدف حماية المجتمع من تخبطات القطاع المالي وإفلاساته.
لكن بخلاف ذلك، رُسمت خارطة كاملة من القرارات التي تفادت التعامل مع جميع أشكال الخسائر الموجودة، وتمّ تحميلها للـغالبيّة الساحقة من المقيمين من محدودي الدخل، كحال الإجراءات التي تعاملت مع أزمات المصارف بطبع العملة مثلاً، ما ساهم في خفض سعر صرف الليرة لاحقاً. وفي النتيجة، وبعد كل ما ألمّ بالعملة المحليّة من انهيارات، بات الخروج من مرحلة تعدّد أسعار الصرف مجرّد صدمة ستقع على حساب محدودي الدخل أيضاً.
إذاً، ارفعوا الدعم فوراً، كي ندفع كلفة الخروج من تعدّد أسعار الصرف، بعد أن دفعنا ثمن كل الصدمات السابقة.