الصدمة المُمَنْهَجة
ضيعان بعد الصدمة
حالة عامّة من الضيعان تسود الآن في البلاد، ضيعان يتجلّى في تزامن الطوابير الجامدة وهبّات الهلع المفاجئة، في تقاطع حالات من التشاؤم السوداوي وحلقات من التفاؤل الساذج، في قرارات رحيل مذنبة وقرارات بقاء نكديّة…
حالة الضيعان «طبيعية». فهي ردّة الفعل المنطقية للصدمة، أو الصدمات، التي تلقّيناها، وما زلنا نتلقّاها، منذ حوالي السنتين.
من يعرف إن كان الدعم قد رُفِع أو ما زال ساري المفعول؟ ومن يستطيع التنبّؤ بما سيحدث عندما تُحرَّر أسعار المحروقات؟ ومَن فهم المرسوم 158 أو ماذا سيحدث بالمرسوم 151؟ وأيّ مازوت سيغذّي أيّ كهرباء، الإيراني أم العراقي أم المصري أم البواخر واعتماداتها المعلّقة…
حالة الضيعان المعمّمة ليست فقط ردّة فعل «طبيعية»، بل قد تكون هي الشعور الوحيد المتاح أمام عملية التهديم الممنهج لمقوّمات الحياة. فما جرى منذ سنتين لا يقلّ عن عملية تهديم لأسس الحياة، لبنيتها الزمانية، لأي ثبات بُنيت من حوله مشاريع أو أحلام أو حياتات…
الصدمة المفبْركة
قد تكون أسباب الأزمة التي نعيشها معقّدة المصادر، وتعود جذورها إلى نهاية الحرب الأهلية، أو حتى إلى أصول لبنان المركنتيلي. لكنّ أسباب الأزمة وحالة الصدمة التي نعيشها شيئان مختلفان. فمنذ انفجار الأزمة، في أواخر العام 2019، تتالت سياسات متناقضة من قبل النظام، فاقمت من آثار الأزمة، وعمّقت حالة الضيعان، من تعدّد أسعار الصرف إلى غموض مصير الدعم، وصولًا إلى تعقيدات التدابير المصرفية.
يمكن تفسير هذه السياسات كنتيجة لعدم كفاءة الطبقة الحاكمة، أو كمحاولة للدفاع عن مصالح خفيّة عندها. لكنّ لهذا التناقض في السياسات مغزىً آخر. أو على أقلّ، يمكن اعتبار ذلك بعد سنتين من تعنيف الناس من خلال هذه السياسات المتناقضة. فالصدمة ليست «طبيعية» أو نتيجة حتمية للانهيار. هي نتاج هذه السياسات وتناقضاتها التي تهدف جزئيًا إلى خلق هذه الحالة من الضيعان.
حالة الضيعان نتيجة صدمة مفبركة، هدفها تركيع الناس من خلال إجبارهم على العيش تحت إيقاع الصدمات المتتالية.
عقيدة الصدمة
ما يحدث في لبنان ليس نتيجة عبقرية رياض سلامة أو حربقة نبيه برّي. هي استراتيجية قديمة، استخدمتها النخب الحاكمة لتمرير سياسات غير شعبية. فكما وصفت ناومي كلاين في كتابها «عقيدة الصدمة»، قام تطور الاقتصاد النيوليبرالي وتوسّعه على صدمة المجتمعات واستغلال حالة الضيعان والارتباك الناتجة عن تلك الصدمات، لتمرير سياسات يمينيّة وتحويل بنية الاقتصاد.
استغلّت النخب الحاكمة الأزمات، أكانت طبيعية أو اقتصادية، لتفرض حالة من الارتباك، تضعف من خلالها المناعات الإجتماعية والمقاومات الشعبية، ما يسهّل تحويل الاقتصاد أكثر في اتجاه النيوليبرالية. وهذا ما حدث، بحسب كلاين، في عدّة بلدان، من أميركا اللاتينية إلى روسيا، وصولًا إلى الولايات المتّحدة.
عقيدة الصدمة ليست مؤامرة، بل هي الترجمة السياسية لعقيدة اقتصادية، تطوّرت في التسعينات، مفادها أن الانتقال إلى اقتصاد السوق يحتاج إلى صدمة سريعة تُحرَّر من خلالها الأسعار والتبادلات، ويُرفَع الدعم ويُقلَّص دور الدولة، بسرعة قصوى. ولفرض تلك الخيارات الموجعة وغير الشعبية، يتمّ إضعاف المناعات الاجتماعية جزئيًا من خلال صدمة المجتمع وإرباكه. فالاقتصاد الحرّ غالبًا ما يكون محمولًا من خلال سياسات قمعيّة، تفرضها النخب، سواء كانت من خلال الدولة أو من خارجها، وتعيد تركيب بنية الاقتصاد.
إنّ رأس المال يولد وهو يقطر دماً وقذارة، من جميع مسامّه، من رأسه وحتى أخمص قدميه. كتب ماركس هذه العبارة لتوصيف حالة التراكم الأوّلي، ولكنّها تصلح لإعادات الهيكلة الدورية للاقتصاد الرأسمالي.
اقتصاد ما بعد الصدمة
بعد سنتين على حلول الأزمة، استطاعت المنظومة تطويع الناس من خلال إخضاعهم لمسلسل من الصدمات، شلّت أي حالة اعتراضية، مهما كانت بسيطة.
بعد أشهر من الطوابير، بات رفع الدعم مقبولًا، حتى عند ضحايا هذا التدبير. وبعد أكثر من سنة على تجميد ودائع الناس، باتت تسعيرة الـ3900 (أي السرقة القانونية والنهائية لما يوازي 80٪ من الودائع) مطلبَ مَن لم يعد لديه شيء. وبعد انهيار القطاع الصحي وانقطاع الدواء، بات تحرير الأسعار مطلبًا حيويًا لمن فقد أي إمكانية للحياة…
ليس هناك من ضيعان عند السلطة، مهما بدت منقسمة ومهما تقاذفت التُّهم. فمشروع السلطة معروف المعالم، وهو التوجّه إلى اقتصاد أكثر تفاوتًا ونيوليبراليةً، يقوم على تحميل الطبقات الأكثر ضعفًا ثمن الانهيار. وما مِن دلالة على نجاح سياسة الصدمة إلّا الانغلاق التام في المخيلة الاقتصادية التي باتت ترى في الأفق النيوليبرالي الخلاص الوحيد من الأزمة الراهنة.
للتذكير فقط، ظهر اقتصاد ما بعد الحرب القائم على تثبيت سعر الصرف على وقع صدمة الحرب الأهلية وتوالي الأزمات المالية في آواخر ثمانينات القرن الفائت وبداية تسعيناته، ما أوصل المجتمع منهَكًا إلى أحضان رفيق الحريري ورياض سلامة. وما تمّ تجميعه خلال العقود الأخيرة من مناعات مجتمعيّة، سواء كحالات اعتراضية كالتي شهدناها في ثورة تشرين أو كحقوق مكتسبة، قانونية أو طائفية، أو كعادات اقتصادية، هي التي تشكّل اليوم العائق أمام تعميق هذا الاتجاه النيوليبرالي للاقتصاد.
الطوابير ليست مجرّد خطأ إداري، أو نتيجة فساد أرباب السوق السوداء. إنّها طريقة حكم وأداة تأديب، ستنتهي عندما يركع الجميع أمام عودة المنظومة، ويصطفّون بآخر طابور ذلّ أمام صناديق الاقتراع في أيار المقبل.