الـ«ليبانيز إكويليبريوم» للبطالة والتهجير
نُجالس يوميّاً أصدقاء صحّ لهم أن يهاجروا من جورة الخرا المُسمّاة لبنان.
روتينٌ جديدٌ يُضاف إلى يوميّات الانهيار، يقضي بأن نحجز لهؤلاء حصّة يومية نودّعهم فيها، من دون أن ينتهي اللقاء بالبكاء أو الحزن الذي يُقرَن عادةً بالوداعات، بل بسرورٍ لأولئِكَ المحظيّين، وعتبٍ على ذاتنا وتقبّلٍ لمصيرنا هنا.
أمّا «المصير» عموماً، في جورة الخرا المُسَمّاة لبنان، فإنّه، كما اتّضح، إمّا أن يكون هجرةً – وللدقّة تهجيراً – وإمّا بقاءً بين العمل أو البطالة، والكفّة ترجح للثانية.
غنيّ عن التوضيح أنّ «العمل» عادةً يتضمّن أنواعاً مُقَنّعة من البطالة، وأنّ «العمل» بشروط الانهيار والتضخّم في لبنان – إن قابَلَه أجرٌ بالليرة ما دون عتبةٍ محدّدة – هو بطالةٌ مقنّعة أكثر ممّا هو عمل.
لا يستند هذا المقال إلى أرقام، كما لا يدّعي أنّه دراسةٌ علمية، لكنّه يُقدّر أنّ حسبة الأرقام ما بين المُهاجرين العاملين نسبةً للأفراد الباقين هنا سواء أكانوا يعملون أم لا، تقود إلى معادلةٍ ما، أسمّيها هنا «الليبانيز إكويليبريوم»، بما معناه الاعتدال اللبناني أو التوازن (بناءً على مزحةٍ ألقاها صديقي عبد القادر).
«ليبانيز إكويليبريوم»
الـ«ليبانيز إكويليبريوم» هو نهجٌ أرساه نظام الحكم في لبنان، في شقّه الدعائيّ كما في شقّه الاقتصادي الرَّيعي الذي يعتاش على عائدات العملة الصعبة التي يرسلها المغتربون إلى عائلاتهم هنا.
في هذا السياق، نفترض أنّه لو قُدّر للجميع أن يهاجر، سيهاجر. غير أنّ الهجرة صارت امتيازاً، امتياز طبقي بالتحديد، حيث يدرك النظام أنّ عدداً من الأفراد لن يُغادروا يوماً الجورة المُسمّاة لبنان في أيٍّ من الأحوال.
بالمقابل، يَعي النظام أنّ عدداً من الأفراد لهم هذا الامتياز، وسيُغادرون الجورة، من دون أي أسف أو ندم أو نوستالجيا كتلك التي زرعتها الدعاية البرجوازية في ذهننا عن المهاجر اللبناني الذي يعود إلى الأرزة ويحتضن تراب الوطن الأحّا.
سيُغادر هؤلاء بأسف وحيد هو الأسف تجاه من بقيَ من عائلتهم أو دائرتهم المصغّرة هنا. ويدرك المغتربون أنّهم ملزمون، شاؤوا أم أبوا، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، أن يرسلوا عملاتٍ صعبة إلى أحدٍ ما داخل لبنان.
هنا روعة الـ«ليبانيز إكويليبريوم» وهَوله؛ في أنّه يخلق تلازماً بين مصير من رحلوا ومن بقوا، من دون أن ينجوَ أحدٌ من هذه اللعنة.
وكون النظام يعتاش (جزئياً) على التحويلات الخارجية، فإنّ مسألة خلق فئةٍ تكون وظيفتها أن تُهاجر كأفرادٍ فقط بمعزل عن عائلاتها، تصبح مسألة في سلّم أولويات النظام. وبذلك يشتري النظام مُهلاً إضافيةً على عمره، يحرص في خلالها على زيادة العقبات التي ستصعّب على العائلات أن تغادر البلاد مجتمعةً، ما يدفعها إلى التضحية بأفرادٍ منها فقط لا غير.
رايح كفّي ماسترز برّا
في سياق موازٍ، وانصياعاً لقواعد الـ«ليبانيز إكويليبريوم»، يصبح مستحيلاً على المؤسّسات التعليمية في لبنان أن تقدّم مستوى التعليم الكافي لحَثّ الطلّاب على البقاء هنا، طمعاً بجودة التعليم. رايح كفّي ماسترز برّا تصبح القاعدة.
عطفاً على ذلك، يُصبح من الضروري أن يُضرَب التعليم العالي الرسمي، وأن تنطلق بروباغندا كاذبة تقول بأنّ شهادة الجامعة اللبنانية غير معترف بها في الخارج، وأن تُقرِن كل جامعة خاصّة نفسها ببلدٍ أُمّ تهَوّن من خلاله على طلّابها أن يهاجروا. فهذا شقّ من الوظيفة الايديولوجية للجامعات الخاصة: أن تُكَرّس شروط الاقتصاد النيولبرالي.
تُعطَف عوامل أخرى على هذا الـ«ليبانيز إكويليبريوم»، إلى ما لا نهاية، لننتهي بأنّ معادلة دقيقة تحكم مجرى التهجير/ البقاء، تضرب جذورها في الماديّ والإيديولوجيّ والأمنيّ… كما تؤثّر هذه العوامل بدورها، فيما بعد، على عوامل أخرى، وتُعيد هيكلة التقسيم الطبقي للمجتمع وديناميّة إعادة إنتاج النظام وإعادة تكريس حكمه على الفئات الاجتماعية المهمّشة.
هذا هو التوازن المطلوب إذاً، الـ«ليبانيز إكويليبريوم». لمن له السبيل إلى الهجرة أن يُهاجر، ولنا أن نبقى في جورة الخرا، مع نفحة انفراجٍ نتحسّسها كلّما أرسل لنا هؤلاء دولاراً طازجاً. ولكلّ من لم يجد نفسه في هذه المعادلة، الجحيم.