رئيس وحدة القمع والقبع
المهدِّد والتهديد
هذه المرّة، لم تبقَ التهديدات مبطّنة أو خفيّة أو مستورة، كما اعتدنا عليها.
أكّد القاضي بيطار خطّياً فحوى التهديدات التي تلقّاها من الحج وفيق صفا، رئيس وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله. وتمّ تسريب فحوى هذه التهديدات التي جاءت على الشكل التالي:
واصلة معنا منك للمنخار، رح نمشي معك للآخر بالمسار القانوني واذا ما مشي الحال رح نقبعك
وإذا لم تكن الرسالة واضحة، زار الحج صفا شخصيًا العدلية، وإن لم يكن سبب الزيارة معروفًا، غير توصيل الرسالة عن القبع.
هذه المرّة، قرّر صاحب التهديدات أن يجعلها علنيّة، معروفة، مادة إعلامية تنتشر مع صورته تحت الخبر، ليصبح الحدث هو المهدِّد وليس التهديد.
في أدبيّات السياسة اللبنانية ما بعد 7 أيار، يُعتبر التهديد العلني لرئيس حدة الارتباط والتنسيق في حزب الله من أعلى درجات التوتر، أو إحدى المراحل الأخيرة في لعبة تداخل الأمن والسياسة. قلة وصلت إلى هذا المستوى المتقدّم، وبقيت قادرةً أن تخبرنا ما هي المرحلة التي تأتي بعد التهديد.
تطيير التحقيق
أن يحظى القاضي بيطار بهذا الشرف، فهذا يعني أنّ تحقيقاته باتت تزعزع أسس هذا النظام.
بعد أن أفلت فنيانوس والمشنوق على بيطار، وهما صبيان صفا عند المردة والمستقبل، استشعر الحج وفيق أنّه أصبح من الضروري أن ينزل بثقله على الساحة ويهدّد شخصيًا القاضي. فمسرحية تطيير التحقيق باتت تحتاج إلى بطلٌ جديّ، بعدما فشل الكومبارس فنيانوس والمشنوق بلعب هذا الدور.
ربّما اعتقد الحج وفيق أنّ مجرّد طرح إسمه بالعلن كفيل بتطيير التحقيق، أو ربّما أراد أن يجرّ القاضي إلى سجال علني قد يقدّم ذريعة لعزله عن الملف. أو ربّما كان التهديد هو ما تحتاج إليه كلبنة فنيانوس والمشنوق لعرقلة للتحقيق. لا ندري، لا أحد يدري ما يدور في أروقة وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله.
لكنّ اللافت، وما لا يحتاج إلى معلومات، هو علنية التهديد. فالحدث كان بمثابة تتويج لدور رئيس حدة الارتباط والتنسيق في صياغة أسس العهد، تتويجٌ علني وإعلامي أخذ شكل جملة واحدة:
واصلة معنا منك للمنخار، رح نمشي معك للآخر بالمسار القانوني واذا ما مشي الحال رح نقبعك
شبح 7 أيار
التهديد علنيّ. لكنّ صاحبه خفيّ.
دخل وفيق صفا السياسة اللبنانية من مصراعيها مع صعود حزب الله إلى الواجهة في بداية هذا القرن، خاصة بعد الأحداث المجيدة في 7 أيار 2008، حيث بات دوره مركزيًا، كمنسّق العلاقات بين حزب الله وسائر الاجهزة الامنية في الدولة اللبنانية. وبعد فترة من الحكم من وراء الكواليس، جاء وزير الداخلية آنذاك، «صقر السنّة» الذي سيصبح إحدى أدواته المفضّلة، نهاد المشنوق، ليدعوه رسميًا إلى الإجتماعات الأمنية. فتكرّس دوره كوريث غازي كنعان ورستم غزالة.
للأمانة، لم يحكم الحج صفا لوحده، فكان له توأم بشخص عباس إبراهيم: واحد اختراق حزبي في الدوائر الرسمية، والثاني امتداد رسمي لمصالح حزبية. بات للثنائي الشيعي رجاله الأمنيّون.
لم يُعرف الكثير عن الحج وقتها، باستثناء أنّه أحد مهندسي العهد، سياسيًا وأمنيًا. فأكثرية الأخبار عنه في الإعلام مقرونة بالنفي: أحدهم ينفي لقاء صفا، غيرهم ينفون دور صفا في هذه الصفقة… وروتينيًا، يتمّ نفي خبر إغتياله. لم يُعرف الكثير، ولكنّ ما عُرِف كان فعّالًا في تطويع الطبقة السياسة بأكملها، ليتحوّل خبر اجتماعه مع أحدهم إلى حدث سياسي. فمن اشتهر بالتفاوض حول تبادل الاسرى مع العدو الصهيوني لن يتشردَق بنادر الحريري أو كارلوس إده.
لم يُعرف الكثير عنه، والبحث عن معلومات لم ينفع. فالبحث عنه بالعربية يأخذنا إلى مئات المواقع التي تتكلّم عن فساده، وعن مظاهرات ليلية أمام منزله، وعن عقاراته، وتبدو أكثريتها تابعة لأنصار حركة أمل المنزعجين من تهم الفساد التي تلاحقهم وتستثني حليفهم. أمّا البحث عنه بالإنجليزية، فيأخذنا إلى وثائق الاستخبارات الأميركية التي تضعه في الطريق المعتاد لقياديّي الحزب الأمنيين، من تفجيرات الماضي إلى تفجيرات الحاضر، مرورًا باقتحامات الماضي القريب.
الانتقال إلى مرحلة التهديد العلني
لكن ليس من الضروري الذهاب إلى الماضي لتفسير صعود الحج. فرئيس وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله بات يُعرف من موقعه البنيوي في السياسة اللبنانية، موقع نقطة الإرتكاز بين السياسة والأمن، موقع بات فارغًا بعد رحيل رستم غزاله إبّان انسحاب الجيش السوري. وهذا الدور بات فارغًا مع الصراع الأمني الذي دار بلبنان، قبل أن يُحسَم لصالح حزب الله، ويُتوَّج بعهده القوي.
وكما كان الأمر مع غازي كنعان أو رستم غزاله من قبله، لا تكتمل السطوة الأمنية على السياسة إلّا مع علنيّتها. فالمطلوب من تلك السيطرة أن تخرج من الظلّ في لحظة ما، أن تخرج من عالم «النفي» و«المبطن» لتصبح علنية، معروفة، تحكم من خلال الإذلال العلني والطاعة المباشرة.
ابتكر الحكم البعثي تقنية الحكم من خلال الإذلال العلني، لكي يفرض الطاعة المطلقة على أزلامه في لبنان. فالمشاوير إلى عنجر أو الشام، أو التمديد من خلال رفع اليد، أو إعلان القرارات من خلال الإعلام، أو تسريب خبر ضرب أو فضائح، كلّها كانت تقوم على فرض علنية السيطرة من خلال إذلال الأدوات.
فالتهديد العلني ليس مجرّد مرحلة في تطيير تحقيق المرفأ، وإن كان قد نجح في كفّ يد القاضي عن التحقيق. إنّه إعلان بأنّ من يحكم البلاد بات يريد طاعة مطلقة. إنّه إعلان بأن أوامر وفيق صفا ليست قابلة للاعتراض أو التفاوض. إنه إعلان بأن باستطاعة هذا المسؤول الحزبي أن يهدّد قاضياً، وأن يتحوّل تهديده إلى قرار رسمي.
لكنّ ذكرى مرحلة الإنتداب البعثي ما زالت طازجة. فلم ننتهِ من حُكم رستم غزاله ليأتينا اليوم رئيس وحدة ارتباط وتنسيق ويفرض علينا خطوطه الحمر التي تقاس بمنخاره.
فالتحقيق بمجزرة المرفأ هو الخط الأحمر الوحيد اليوم، مهما هدّد الحج ومن ورائه السيّد.