معركة بطعم «تربيح الجميلة»
«ثورة» خارج السياق
مع اقتراب الذكرى الثانية لثورة تشرين، تبدو كلمة «ثورة» مبهبطة كوصف لما آلت إليه الأمور. أو لتفادي الاستفزاز المجاني، تبدو كلمة «ثورة» خارجة عن أي سياق سياسي، لا علاقة لها بما يجري في البلاد. فتشكلت حكومة الدراويش (المدعومة فرنسيًا) لإعادة تأهيل النظام، واستمرّ حاكم مصرف لبنان بمراسيمه لإعادة رسملة المصارف (المحمية فرنسيًا)، واستكملت المعركة على التحقيق في انفجار المرفأ (برعاية فرنسية)، من دون أي اعتبار لردّ فعل «الثورة» أو أيّ دور لها في تلك الأحداث.
بكلام أدّق، يبدو دور الثورة في مخيّلة النظام (والمبادرة الفرنسية) تنظيف صورته وصورة حكومة الدروايش، كما يفعل التكنوقراطي الأخير، في عمله الدؤوب لشطف الإهراءات وشوارع المدينة، بينما زملاؤه يشطفون آثار الجريمة والنهب.
وعد «الثورة»
قد تكون «الثورة» خارج السياق، لكنّها موجودة في كل الأحاديث، أقرب إلى «وعد» غامض عن خلاص لن يأتي. فغالبًا ما ينتهي أي حديث عن الوضع بسؤال عن «الثورة»، عما ستقوم به، عما إذا كانت ستقبل بهذا القرار أو ذلك التصريح، عن سكوتها المستغرب، عن صحّتها، عن وجودها… فتحوّلت «الثورة» إلى البطل المنتظر والمغيّب، وترقّت إلى مرتبة «الشهيد» الذي افتتحت شهادته المرحلة السوداء التي نعيشها.
مع اقتراب الانتخابات، صار الوعد وعدَيْن: وعد «الثورة» سيتحقّق بوعد «الانتخابات»… أو لا. فتبدو علاقة «الثورة» بالانتخابات مزاجية، تنتج انتصارات في حالات أو تنذر بانتكاسات (كالمتوقعة بنقابة المحامين مع التخبّط المعتاد لممثلي «الثورة») في حالات أخرى.
الصراع على الإسم
لكن مع اقتراب الانتخابات النيابية وازدياد الحماسة تجاهها، تحوّلت «الثورة» إلى ساحة التنافس، وأخذ الصراع على الإسم مكان الصراع الانتخابي مع قوى السلطة. فتتخيّل مختلف قوى الاعتراض، الثورية منها والنظامية، أنّ إسم «الثورة» كفيل بتحقيق اكتساح شعبي، ما ينقل وجهة المعركة مع السلطة إلى معركة باتت تشبه تنافس النسور على جثّة عفنة. فيبدو أنّ سؤال «من هي الثورة؟» بات أهمّ من سؤال «ما العمل؟»، وهو الإشارة الأوليّة إلى خروج «الثورة» عن السياق السياسي.
منذ أوّل أيام أحداث تشرين، والصراع قائم على حدود «الثورة»، صراع بدأ مع اقتحام القوات اللبنانية التي أرادت الاستحواذ على الإسم وإدراجه من ضمن رؤية قائدها التاريخية، إلى تقارب بعض الأحزاب والفعاليات من جو «الثورة، كالكتائب اللبنانية أو الحزب الشيوعي، وصولًا اليوم، إلى تشكيلة من الفعاليّات السياسية التي باتت تريد حصة من هذا الإسم الذي يمكن أن يضفي بعض المعنى على ألاعيبهم المصلحجية.
سجال حول جثّة
السجال، مهما كان حاميًا، ليس مهمًا، إلّا لأبطال شاشات التلفزة وجماعة طاولات تقسيم المقاعد الانتخابية. فلا يتطلب الموضوع فهمًا عميقًا في السياسة باعتبار أن هناك معارضات مختلفة اليوم، بعضها موجّه للـ«نظام» وبعضها الآخر للـ«عهد»، وهناك مفهوم مختلف للـ«ثورة»، حتى ضمن المجموعات «الثورية». كما لا يحتاج الموضوع إلى تكهّن عميق لمعرفة أين تنتهي تلك السجالات عادة. فالبحث عن نقاوة ثورية غالبًا ما ينتهي بحالة من الوحدة والانعزال، قد تبدو راديكالية للبعض، ولكنّها ليست إلّا طريقة للتأقلم مع الهزيمة.
فمن السهل تصنيف القوى السياسية حسب باروميتر ثوري. ولكن ماذا عن «الثوّار» المحبّين للجزمة العسكرية، أو الثوار الذين ما زالوا لا يعتبرون المصارف جزءاً من المشكلة، أو أولئك الذين يرون الصراع مع الذكورية أو العنصرية صراعات ثانوية، أو تشكيلة «رجال الثورة» الذين باتوا أقرب إلى فقاعات إعلامية…
معركة «تربيح الجميلة»
والأهم من ذلك، أن الصراع على «الإسم» هو المدخل لمعركة انتخابية بطعم «تربيح الجميلة»، معركة يمكن تلخيصها بشعار أنا الثورة وبالتالي ضروري تنتخبوني.
أنا الثورة من الـ2019، وإن كنت من قبلها مستشاراً أو وزيراً، أنا الثورة من الـ2015، وإن كنت من قبلها أرشق العمّال الأجانب بالحجارة، أنا الثورة من الـ2011، وإن كنت لا أدري لماذا فشلتُ في فعل أي شيء منذ أكثر من عشر سنوات… المهم أنا الثورة، والبديل كارثي، فانتخبوني…
بعد سنتين على حدوثها، تبدو «الثورة» اليوم أقرب إلى جثة، يتصارع سياسيون موسميون وثوار محترفون على إرثها، متخيّلين أنّه ما زال لهذا الإسم قدرات سحريّة. بعد سنتين على حدوثها، ما زال ممثلو هذه الجثة يتفاوضون على كيفية خوض المعركة الانتخابية، دراسة تلوة الأخرى، حديثاً عبثياً بعد الآخر. ربّما نجح النظام بخلق «الثورة» التي يحتاج إليها، لتصبح ثنائية «النظام والثورة» أقرب إلى خلاف عائلي، ينتهي على غداء نهار الأحد.
ليس مهمًّا أن ننتخب قوى «الثورة» في الاستحقاق القادم، المهم كسر النظام. وهذان الفعلان قد لا يكونان مرتبطين في آذار المقبل.