فشر بإصبعه ومنخاره: دولتي فعلت هذا
الطور الثاني قبل القبع
بدأ الطور الثاني من حملة قبع القاضي بيطار. أو بلغة الحاج وفيق صفا، بات الوضع يفوق المنخار، ما يتطلّب تصعيد الحملة، قبل القبع النهائي.
تكثّف القنص القانوني على التحقيق من قبل صبيان وفيق صفا. فُتِحت الشاشات للفارين من العدالة وسارقي الآثار لتبرئة أنفسهم. وخرج نصرالله ليعلن أنّ كيله طفح من «هذا القاضي». رُكِّبت تهم عن نترات آخر، برعاية الخصوم السياسيين. استُكملت الحملة بتهديد بتحرّكات بالشارع، بنكهة طائفية هذه المرّة. استُدعيت حكومة الدراويش، مطالبة بأخد قرار حاسم (والحسم، كما ندري، ليست من صفات الميقاتي المفضّلة). أُطلقت الأبواق الإعلامية لكي تخوّن وتهدّد وتبعبع.
وإذا لم يكن هذا كافياً، فالمقاومة مستعدّة لفعل كل ما يلزم لمنع تكرار الأمر، كما كتب مسؤول التهديدات الإعلامية في وحدة الارتباط والتنسيق. وندرك تمامًا ما يعني «كل ما يلزم».
لم نعُد في الـ2005
الأمر الذي يُراد عدم تكراره هو مرحلة المحكمة الدولية التي تلت اغتيال رفيق الحريري.
فالطور الثاني، مهما كان منخار وفيق صفا يرعاه، ما زال يفتقد إلى صلابة أيديولوجية، ويبدو ركيكًا، كركاكة ردّ المشنوق على تهمة سرقة الآثار. ما زال يفتقد إلى تلك الرواية المؤامراتية التي تضفي على كذب المتّهمين بُعدًا كونيًا، أو على زعرناتهم معاني مقاومة. فلم يجد منظّرو الجريمة إلا إعادة نبش أدواتهم وكتّابهم من قعر الـ2005، ليتحفونا بنظرية مؤامرة كونية، تخوضها دول العالم من خلال شخص «القاضي بيطار» (والذي بات يعاني من عدد لا يحصى من الأمراض النفسية، حسب أرباب هذه الحملة).
بيد أنّ النظرية كانت بالكاد تقنع في العام الـ2005، لتصبح اليوم أقرب إلى هلوسات مَن تنشّق جرعةً من النترات المعفّن.
تبدو دول العالم أقرب إلى موقف داعم لحكومة العهد من معارضتها، والمبعوثون الفرنسيون يعملون جاهدين لتبييض صفحتها. والحكومة واضحة بقرارها منع التحقيق. أما القوى السياسية، فباتت، بأكثريتها تحت سيطرة حزب الله، ومصطفّةً في مشروع تطيير التحقيق. والإعلام الذي يفترض أنّه رأس حربة هذه المؤامرة، باتت شغلته تبرئة المتّهمين. ولا داعي للتكلّم عن الأجهزة والقضاء، فهي بأكملها تحت سيطرتهم.
لكنّ هناك مؤامرة كبيرة، كونيّة، كما يؤكّد لنا منظّرو القتل والإجرام. فهل رأيتم معرض الصور الذي أقامته مجموعة من المتظاهرين؟ مؤامرة كهذه لا يمكن أن تقطع. تدخّلٌ كهذا في عمل القضاء لا يمكن أن يمرّ، ليس من تحت منخار وفيق صفا.
إذا أردتم العودة إلى الوراء…
…هناك تاريخ آخر يمكن العودة إليه، وهو ذاك اليوم المجيد في الـ2008، حين وضع حزب الله قواعد اللعبة التي يحاول اليوم إعادة تأكيدها.
فأوجه الشبه، إذا كان من شبه، ليست مع مرحلة المحكمة الدوليّة، ولكن مع التحضير لهذا الاقتحام المجيد الذي أسّس لمرحلة سطوة الحزب على البلاد. بيطار ليس رأس الحربة لمؤامرة كونية تتلطّى وراء تحقيق عدلي. لكنّ هجومهم عليه مقدّمة لعمل سياسي (أو أمني)، هدفه الإمساك بالأمور. والحملة الحالية ليست موجّهة ضد التحقيق فحسب، بل هي موجهة ضد الجميع، كتذكير بمن يحكم البلاد، حتى ولو تفجيرًا.
تقنيات السطوة باتت معروفة، من تهديدات مسرّبة إلى وسخنات إعلامية، مرورًا بتجييش الشارع والضغط على الحلفاء، وصولًا إلى الاغتيالات. هي معروفة، وكانت فعّالة حتى اليوم. فللتذكير فقط، ليس من وقت بعيد، حكّ الحاج منخاره، فسقط معارض للحزب اغتيالًا في الجنوب. ربّما ما من علاقة سببية بين هذين الحدثين، ولكنّ السياسة اللبنانية باتت تتحرّك على فرضية أنّ هناك علاقة بينهما.
لكن ليس من عودة إلى الوراء
هي تقنيات معروفة، لكنّها لم تعد فعّالة.
لم تعد فعّالة، لأن البلاد باتت تحت سيطرة حزب الله، وما من معارضة سياسية يمكن إضعافها أو قبعها. فالتهديدات باتت في وجه «رأي عام»، يضغط، يشتم، يغضب، يحاسب، يستنكر… هذا الرأي العام، لا يمكن اقتحامه أو تفجيره أو سجنه، مهما ضاق خلق السيّد. فيمكن تطيير التحقيق، ومعه القاضي. لكن لا شيء سيغيّر حقيقة أنّ هذا النظام فجرّ بيروت، بعدما نهب البلد، وستبقى هذه التهمة فوق مناخيرهم مهما فعلوا.
لم تعد فعّالة، لأن سيطرة حزب الله السياسية باتت من دون منازع، لتتحوّل إلى ماكينة قمع وقبع من دون هدف غير إعادة انتاج ذاتها إلى ما لا نهاية. وهذا ما يفسّر الهجمة الحالية. هي تكرار للعنف ذاته الذي أمّن صعود حزب الله، والذي بات مضطرًا لتكراره دوريًا في حلمه المستحيل للسيطرة. لم تعد فعّالة، لأنّ مقاومتها اليوم لا تحتاج إلّا أكثر من بضع كلمات لا يمكن محوها: دولتي فعلت هذا.